السبت، 25 فبراير 2012

كيفية العودة للملكية الدستورية التي حولتها الحكومة الخفية لسلطة مطلقة- أ.د. محمد الحموري


أولاً: الملكية الدستورية تقوم على الفصل بين المُلْك وبين سلطة الحكم

يقصد بالملكية الدستورية في معناها المستقر في العالم, الدولة التي يأخذ دستورها بالنظام البرلماني (أي النيابي) ويرأسها ملك, بحيث تفْصِل نصوص هذا الدستور بين السلطة والمُلْك. بعبارة أخرى, فإنه يشترط لقيام الملكية الدستورية, وجود رئيس دولة يملك ولا يحكم, وإنما الذي يحكم هو مجلس تشريعي منتخب من الشعب, تنبثق عنه حكومة تحصل على ثقته من أجل أن يكون وجودها وممارستها لسلطاتها وجوداً وممارسة دستورية, وذلك تجسيداً لمبدأ أن الشعب هو مصدر السلطة. ولمزيد من التوضيح, نقول ما يلي:

1- منذ أواخر القرن الثامن عشر, أخذ مبدأ الشعب مصدر السلطة, يظهر في التطبيق لدى بعض دول أوروبا, بعد أن ساد ما طرحه بشأنه فلاسفة العقد الاجتماعي خلال ما يقارب القرنين, فاعتنقته شعوب أوروبا واقتنعت به, وناضلت وبذلت الدماء حتى تم تعميده وتطبيقه في دساتيرها. وكانت أقدم الدول في تطبيقه دولة بريطانيا, حيث اعتمد دستورها المبدأ على نحوٍ واضح, خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر, وتكامل بهذا المبدأ, النظام البرلماني الذي صدرته بريطانيا إلى العالم, فأخذت به الملكيات الأوروبية تباعاً, واقتبسه الأردن في دستوره لعام 1952 ، من خلال الاقتداء بالدستور البلجيكي لعام .1921 وما أخذت به الملكيات البرلمانية, واقتبسناه منها, هو الذي تطلق عليه الطروحات في الأردن "الملكية الدستورية".

2- وما دام النظام البرلماني الذي يستند إلى مبدأ الشعب مصدر السلطة, قد نشأ وتكامل في ظل الملكيات الأوروبية, فإن السؤال الذي يثور هو, كيف أمكن التوفيق بين مبدأ الشعب مصدر السلطة وبين النظام الملكي الذي يقوم على توارث المُلك? وفقاً للمفاهيم المستقرة في الفكر الدستوري والسياسي الآن, فإن الذي يحكم يمارس بالضرورة سلطة, والسلطة مصدرها الشعب ويمارسها نيابة عنه مجلس ينتخبه لهذه الممارسة, فإذا كان الملك يتولى موقعه بالوراثة وليس بانتخابٍ من الشعب, فما هو دور الملك إذن, وهل يحكم ويمارس سلطة? إن الجواب له أهمية خاصة في الأردن الآن, يفرضها واقع الحديث عن الملكية الدستورية.

3- هذا السؤال واجهته بريطانيا خلال فترة جورج الثالث (حكم من عام 1760 حتى 1820), ووضعت إجابة عليه بكل صراحة ووضوح في تلك الفترة الزمنية المبكرة, عندما فصلت بين الملْك وممارسة السلطة, واعتنقت مبدأ تلازم السلطة والمسؤولية. وبموجب هذا الفصل, أصبحت السلطة للشعب, يمارسها من خلال مجلس نيابي منتخب, تنبثق عنه حكومة يشكلها حزب الأغلبية في المجلس, ويكون القضاء والرأي العام رقيباً على السلطتين معاً. وما دامت السلطة هي للشعب ومن ينتخبه الشعب لتمثيله, وكان الملك يتولى منصبه بالوراثة, فلم يعد الملك يمارس سلطة, ومن ثم فقد أصبح مُعفى من أي تبعة أو مسؤولية. بعبارة أخرى, فحيث أن من يمارس سلطة يصيب ويخطئ وبالتالي يخضع للمساءلة إن أخطأ, وبالنظر إلى أن الملك لا يمارس سلطة, فإنه لا يُتصور أن يصدر منه خطأ حتى يسأل عنه. ومن أجل ذلك, فقد أوجدت بريطانيا نصاً في قانونها العقابي يُجرّم من يمس الملك, وأصبحت هذه الجريمة تسمى في الدول الأخرى, جريمة إطالة اللسان. وقد حدث أن مارس السلطة بعض رؤساء دول النظام البرلماني, فوجهت الصحافة نقداً مريراً لهم, ولم يطبق نص حماية الرئيس بجريمة إطالة اللسان, لافتقاد شرط تطبيقه على الصحافة وهو عدم ممارسة السلطة. وانطلاقاً من أن الذي يتحمل المسؤولية أمام الشعب وأمام البرلمان هي الحكومة, فقد تكامل مع ذلك, قاعدة أن أوامر الملك الخطية والشفوية لا تعفي الوزراء من مسؤولياتهم, لكن هذه الأوامر ليست بالضرورة ملزمة. والسبب أن الوزير هو المسؤول وليس الملك, ومن ثم فإن هذا الوزير إن وجد في أوامر الملك ما يخالف الدستور أو المصلحة العامة, السياسية أو المالية أو غير مناسب لعمل وزارته, يكون عليه أن ينبّه الملك إلى ذلك, فإن أصرّ الملك على أمره, يكون من حق الوزير أن لا يستجيب, إذ لا يوجد نظام قانوني في هذا العالم, يجبر الوزير على مخالفة الدستور أو المصلحة العامة في وطنه, وتعريض نفسه للمسؤولية الجزائية أو المدنية.

4- وفي مقابل ما سبق, فقد وضع النظام البرلماني حقوقاً للملك تتمثل في اعتباره رئيساً ورمزاً للدولة, والقائد الأعلى لقواتها المسلحة, وجعل أحكام القضاء والقوانين تصدر باسمه, كما أعطاه عدداً من الصلاحيات التي تتمثل في توقيعه على ما يقرره مجلس الوزراء, وبهذا التوقيع يصبح الملك ممارساً لصلاحياته من خلال وزرائه. ومن هذه الصلاحيات, إعلان الحرب, وعقد الصلح, وإبرام المعاهدات والاتفاقيات, ودعوة مجلس الأمة للانعقاد, والمصادقة على القوانين, وحل المجلس التشريعي, والدعوة إلى الانتخاب العام, وإنشاء الرتب والألقاب, وإصدار العفو الخاص... الخ. وعلى سبيل المثال, فإن هذه الصلاحيات ينص عليها بشكل متطابق, كل من الدستور البلجيكي والهولندي والأسباني, والمدونة الفقهية لأحكام الدستور الإنجليزي التي وضعت تلك الأحكام على شكل نصوص. ووفقاً للدساتير المذكورة, فإن القرار الذي يوقع عليه الملك في جميع هذه الصلاحيات, ينبغي أن يتخذه مجلس الوزراء أو رئيس الوزراء والوزير المختص, وبعد ذلك يوقعه الملك بالموافقة عليه. وهنا ينبغي التأكيد على أن خلو القرار من توقيع رئيس الوزراء والوزير أو الوزراء المختصين, يجعل القرار مخالفاً للدستور وفاقداً قيمته, حتى ولو وقع عليه الملك.

5- بالإضافة إلى ما سبق, فإن دساتير النظام البرلماني تنص على حق الملك في تكليف شخص بتأليف الحكومة, ليتقدم إلى المجلس المنتخب من الشعب بطلب الثقة, لكن هذا الحق في الديمقراطيات البرلمانية, يقيده واقع لا يستطيع الملك أن يخرج عليه, وهو, ضرورة أن يكلف بتشكيل الحكومة رئيس حزب الأغلبية أو رئيس ائتلاف الأغلبية في المجلس الذي انتخبه الشعب. وهذا الأمر الذي يفرضه الواقع على الملك, ينطلق من أن تكليف أي شخص آخر غير الرئيس المذكور, لن توافق عليه الأغلبية, ولن يحصل على ثقة الشعب, ومن ثم فلا يجد الملك أمامه سوى تكليف رئيس الأغلبية بالتشكيل الوزاري.

6- وهنا ينبغي التأكيد على أنه ارتبط بنشوء النظام البرلماني, نشوء النظام الحزبي, حيث يقدم كل حزب إلى الشعب برنامجه الذي سيطبقه إن فاز بأغلبية المقاعد البرلمانية وشكل الحكومة. ففي بريطانيا التي صدرت النظام البرلماني للعالم, نجد أن النظام الحزبي تكامل مع تكامل النظام البرلماني. ففي عام ,1770 تضامن الحزبان القائمان في ذلك الوقت, حزب الأحرار وحزب المحافظين, للتأكيد على الملك جورج الثالث بضرورة تشكيل الحكومة من حزب الأغلبية وأن يمارس حزب الأقلية دور المعارضة, وانطلاقاً من مبدأ الشعب مصدر السلطة يمارسها من خلال نوابه في البرلمان, خيّرا الملك بين القبول بالقواعد السابقة التي تقوم على الفصل بين السلطة والمُلْك, وبين إمكانية تغيير الملك مع كل انتخابات برلمانية, إن أراد أن يجمع بين المُلْك والسلطة, فأخذ الملك بالخيار الأول, ووافق على ما أراده الحزبان, واستقر النظام البرلماني على النحو الذي سبق ذكره. وهنا يُلاحظ, أنه في الدول البادئة بالأخذ بالنظام البرلماني, في أعقاب نظام حكم مطلق لا يقبل بأحزاب أو رأي آخر, فإن هذه الدول, في الوقت الذي تسارع فيه بوضع قوانين أحزاب وانتخاب وحريات للوصول إلى تناوب أحزاب على السلطة, فإنها تضع في دساتيرها نصوصاً تجعل القول الفصل في اختيار رئيس الحكومة قبل تكليفه رسمياً من الملك, للبرلمان الذي يجسد إرادة الشعب. وخير مثال على ذلك, ما أخذت به أسبانيا عندما صدر دستورها البرلماني عام 1978 ، بعد رحيل الجنرال الدكتاتور فرانكو, وتولي الملك خوان كارلوس عرش أسبانيا. وخلال عقد من الزمان, وبفضل ما هو متاح من حريات, نمت الأحزاب في أسبانيا ووصلت إلى مرحلة التناوب على الحكم, وسهلت الأمر على الملك والبرلمان معاً, وأصبح رئيس حزب الأغلبية هو الذي يكلفه الملك بتشكيل الحكومة.

7- إن أول مادة في الدستور الأردني تنص على أن نظام الحكم في الأردن هو نيابي (أي برلماني) ملكي وراثي. ومن يتفحص صلاحيات الملك المنصوص عليها في الدستور الأردني, يجد أن نصوص هذا الدستور متطابقة بحروفها وكلماتها وجُملها, مع دساتير النظام البرلماني في دول أوروبا, ومنها تلك التي تأخذ بالنظام الملكي ويطلق عليها الملكيات الدستورية. ورغم التعديلات التي جرت على الدستور الأردني حتى الآن, فإن هذه التعديلات لم تُزد أو تُنقص من صلاحيات الملك, وظلت تلك الصلاحيات متطابقة مع صلاحيات ملوك أوروبا الذين يرأسون ملكيات دستورية, إذ أن أي تعديل على تلك الصلاحيات بالزيادة أو النقص يؤدي إلى اختلال في توازن النظام البرلماني.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو, ما دام أن دولة الأردن, في ضوء ما أسلفنا, ملكية دستورية على وجه القطع, واقتبسنا دستورنا عن دساتير الملكيات الدستورية في أوروبا, فلماذا اختلف الحال عندنا عن حال الدول التي أخذنا بذات نصوص دساتيرها, واختل واقعنا السياسي والدستوري والإداري, وخضعت الحقوق والحريات عندنا لقيود لا تقبل بها أية دولة من دول الملكيات الدستورية؟ (العرب اليوم)

أ.د محمد الحموري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق