كثرت في الآونة الأخيرة الأصوات المنادية إلى ضرورة إجراء إصلاحات سياسية في نظام الحكم في الأردن تتمثل في تعديل الدستور الحالي الصادر عام 1952 وتطبيق فكرة الملكية الدستورية مسترشدين بذلك بالنظام الدستوري البريطاني والذي يراه البعض مثالا حيا للملكية الدستورية. من هنا تنبع أهمية هذه الدراسة حول ماهية الملكية الدستورية ومدى سلامة وقانونية مطالبات بعض الفئات السياسية بالتحول إلى ملكية دستورية في الأردن.
إن نقطة الانطلاق في الحديث عن الملكية الدستورية يجب أن تكون بوضع تعريف محدد وواضح للملكية الدستورية. في هذا السياق نؤكد عدم وجود اتفاق بين الأطياف السياسية في الأردن حول المقصود بالملكية الدستورية وما يميز الملكية الدستورية عن الملكية في الدستور الحالي لعام .1952 فهناك من يرى أن التحول من آلية تعيين رئيس الوزراء كحق مطلق للملك إلى اختيار رئيس الوزراء بالانتخاب أسوة في الأنظمة الديمقراطية الغربية هو تحول نحو الملكية الدستورية, في حين يرى اتجاه آخر أن العودة إلى دستور 1952 وإلغاء كافة التعديلات التي طرأت عليه يكفي لتطبيق الملكية الدستورية.
إن عدم وجود اتفاق على تعريف الملكية الدستورية يعطي انطباعا حول مدى جدية هذه المطالبات وأهميتها من عدمه. فمن جانب دستوري لا يوجد هناك ملكية دستورية وملكية غير دستورية إذ أن نظام الحكم - سواء كان ملكيا أو جمهوريا - يجب أن يكون وفق أحكام الدستور والذي يستمد منه أي نظام حاكم شرعيته. فالدستور في أية دولة وبغض النظر عن نظام الحكم فيها يتضمن قواعد خاصة بتشكيل السلطات واختصاصات كل سلطة والعلاقة بينها والعلاقة بين الفرد والسلطة حيث يجب أن تمارس كل سلطة صلاحياتها وأعمالها وفق أحكام الدستور وإلا كانت قراراتها وأعمالها مخالفة للدستور. وهو الاتجاه الذي تبناه الدستور الأردني والذي ينص على تشكيل السلطات الثلاث - التشريعية والتنفيذية والقضائية - ويحدد لكل سلطة مهامها وأعمالها وينظم طبيعة العلاقة بين السلطات والتي تقوم على أساس الفصل المرن بين السلطات ويعتبر أن الأمة مصدر السلطات تمارس صلاحياتها على الوجه المبين في الدستور, فإذا ما مارست هذه السلطات وقامت بالمهام الموكولة لها وفق أحكام الدستور فإن نظام الحكم يعد دستوريا.
إن نظام الحكم في الأردن كما حددته المادة (1) من الدستور الأردني هو ملكي وراثي نيابي. فعرش المملكة الأردنية الهاشمية وراثي في أسرة الملك عبد الله بن الحسين في الذكور من أولاد الظهور وفقا الأحكام المادة (28) من الدستور الأردني. أما دالة النظام النيابي فهي أن عناصر ومقومات الديمقراطية النيابية - والمتمثلة في وجود برلمان منتخب من الشعب لمدة محددة يمارس سلطة فعلية وأن رئيس الدولة مصون وغير مسؤول وأن الوزراء مسؤولون أمام نواب الأمة - متوافرة في النظام الدستوري الأردني. فالمادة (67) من الدستور تنص على أن يتألف مجلس النواب من أعضاء منتخبين انتخابا عاما سريا ومباشرا وفقا لقانون الانتخاب, أما مدة مجلس النواب فهي محددة بأربع سنوات شمسية قابلة للتمديد بإرادة ملكية مدة لا تقل عن سنة واحدة ولا تزيد على سنتين وفقا للمادة (68/1) من الدستور, أما الملك في الأردن فهو مصون من كل تبعة ومسؤولية وفقا لأحكام المادة (30) من الدستور, الوزراء مسؤولون مسؤولية جماعية وفردية أمام مجلس النواب وفقا لأحكام المادة (51) من الدستور.
فمن خلال تطبيق نظام الحكم الملكي الوراثي النيابي في الأردن تكون الملكية دستورية طالما أن جميع السلطات في الدولة بما فيها الملك تمارس أعمالها وفق أحكام الدستور. يبقى الأمر الآخر الذي أثار نوعا من الخلط واللبس وهو حقوق الملك في الدستور الأردني وطبيعة دوره في إدارة شؤون الحكم, فقد أناطت المادة (26) من الدستور السلطة التنفيذية بالملك على أن يتولاها بواسطة وزرائه وفق أحكام الدستور, وهو الأمر الذي استتبع بالضرورة أن يمارس الملك مجموعة من الحقوق بصفته رئيسا للسلطة التنفيذية تتمثل في اختيار رئيس الوزراء والوزراء وإقالتهم وقبول استقالتهم والتصديق على القوانين الصادرة عن البرلمان والموافقة على القرارات والأنظمة التي يضعها مجلس الوزراء, فالملك بهذه الصفة في الدستور الأردني يشارك في الحكم بصورة فعلية ويتدخل في إدارة شؤون البلاد, بالتالي فهو يسود ويحكم. وذلك على خلاف الأنظمة الملكية الأخرى التي يكون فيها الملك يسود ولا يحكم, فهو يعامل على أساس أنه مجرد حلية أو مركز شرفي لا يحق له التدخل في شؤون الحكم بصورة فعلية.
للوهلة الأولى يمكن القول ان حق الملك في التدخل الفعلي في شؤون الحكم يتعارض مع المادة (30) من الدستور والتي تنص على أن الملك مصون وغير مسؤول, إذ أنه من المتعارف عليه أنه حيثما تكون هناك سلطة لا بد من وجود مسؤولية. إلا أن حق الملك في التدخل في شؤون الحكم في الأردن يستقيم مع مبدأ عدم مسؤوليته في النظام الدستوري الأردني ذلك أن الملك في الأردن لا يحكم بنفسه وبصورة مباشرة ليترتب عليه مسؤولية, وإنما يحكم بصورة غير مباشرة أي بواسطة رئيس وزرائه ووزرائه الذين يختارهم لتشكيل السلطة التنفيذية التي يرأسها, فالوزراء يشاركون الملك فعليا في الحكم ويتحملون أية مسؤولية تترتب عن تدخل الملك الغير مباشر في إدارة شؤون البلاد. فالملك في الأردن يمارس صلاحياته الدستورية بموجب إرادات ملكية تصدر وفق أحكام المادة (40) من الدستور والتي يشترط بها أن تكون موقعة من رئيس الوزراء والوزير أو الوزراء المختصين على أن يبدي الملك موافقته بتثبيت توقيعه فوق التواقيع المذكورة. فمن خلال توقيع رئيس الوزراء والوزراء على الإرادة الملكية تنتقل المسؤولية من الملك إلى رئيس الوزراء والوزير المختص وهي بالمناسبة مسؤولية سياسية يمارسها مجلس النواب من خلال حجب الثقة عن الوزراء وتوجيه الأسئلة والاستجوابات لهم وذلك دون أن يتحمل الملك أية مسؤولية عن تدخله غير المباشر في شؤون الحكم باعتباره مصونا ولا يسأل سياسيا أمام مجلس النواب.
فإذا ما تحققت المعادلة السابقة من أن الملك الذي يحكم في النظام النيابي يمارس صلاحياته من خلال وزرائه الذين يتحملون المسؤولية السياسية عن تلك الأعمال أمام مجلس النواب من خلال توقيعهم على الإرادات الملكية نكون بصدد تطبيق كامل لمبدأ الملكية الدستورية دون الحاجة إلى تقليص صلاحيات الملك أو منعه من ممارسة أية سلطات دستورية. فإذا كان المتفق عليه في أي نظام نيابي أن الملك مصون وغير مسؤول, فإن المختلف عليه هو دور الملك في النظام النيابي, فهناك أنظمة تأخذ بالدور السلبي للملك وتنكر عليه حق التدخل في شؤون الحكم باعتباره مركزا شرفيا كما هو الحال في بريطانيا, إلا أن هناك أنظمة يكون فيها للملك حق التدخل الفعلي في شؤون الحكم لكن بصورة غير مباشرة ومن خلال وزرائه كما هي الحال في الأردن. من هنا فإنه من الخطأ تعريف الملكية الدستورية على أساس أنها دعوة إلى التقليص من صلاحيات الملك ومنعه من التدخل في شؤون الحكم أسوة بالنظام الملكي البريطاني الذي يعتبره البعض النموذج الأفضل للملكية الدستورية ويطالب باقي الأنظمة الملكية أن تعدو عدوها, فسلبية الملك في بريطانيا وعدم تدخله في شؤون الحكم وتقليص صلاحياته الدستورية لم يكن وليد مبدأ أو رأي مقرر سلفا بقدر ما هو ثمرة تطورات تاريخية ومصادمات بين الملك والبرلمان البريطاني على مدى عدة قرون أدت جميعها إلى إضعاف سلطة الملك في مواجهة البرلمان, فقد كان الملك في بريطانيا وحتى القرن الثامن عشر يمارس شخصيا صلاحيات واسعة في إدارة شؤون الحكم ولم يكن مرغما على استشارة أو أخذ رأي أي من وزرائه العاملين, إلا أن الوضع قد تغير بعد صدور قانون الانتخاب البريطاني لعام 1832 والذي كرس تنازل الملك عن حقوقه للبرلمان وأصبح مجلس الوزراء منبثقا عن مجلس النواب البريطاني الذي ينتخبه الشعب, وخسر الملك حقه في اختيار شخص رئيس الوزراء لصالح رئيس الحزب الفائز في الانتخابات التشريعية.
إلا أن الحالة البريطانية السابقة من تقليص صلاحيات الملك لا يعني بالضرورة أن يتم تقليص صلاحيات الملك في الأردن بحجة وجود ملكية دستورية في بريطانيا وعدم وجودها في الأردن, فرغم الحد من سلطات الملكة في بريطانيا فيما يتعلق بتعيين رئيس الوزراء إلا أن الوضع لا يصل إلى درجة القول بان الملكة في بريطانيا قد تجردت من كافة صلاحياتها وحقوقها الدستورية لصالح رئيس الوزراء, لا بل على العكس فالملكة في بريطانيا ما زالت تتمتع بسلطات وصلاحيات دستورية تمارسها إلى جانب رئيس الوزراء تتمثل في رئاستها لدول الكمنولث والتصديق على القوانين ودعوة البرلمان البريطاني للانعقاد وإلقاء خطاب العرش والأهم في ذلك تكليف رئيس الحزب الفائز بتشكيل الحكومة واختيار شخص رئيس الوزراء في حالات معينة تقتضيها الضرورة, فالملكة إذا ما كانت قد رضيت في أن تقيد حقها الدستوري في اختيار رئيس الوزراء في شخص رئيس الحزب الفائز في الانتخابات إلا أنه لا يوجد ما يمنعها دستوريا من أن تختار شخصا آخر لرئاسة الوزراء وليس رئيس الحزب الفائز في الانتخابات, وهو ما حدث عام 1931 عندما اختارت ملكة بريطانيا رئيس الوزراء العمالي رامزي ماكدونلاد لتشكيل حكومة وطنية من معظم الأحزاب السياسية لمواجهة الظروف الاقتصادية في ذلك الوقت رغم فوز حزب المحافظين في تلك الانتخابات. وفي عام 1963 عندما استقال رئيس الوزراء البريطاني المحافظ هارولد ماكميلان لم يكن لدى حزب المحافظين آلية واضحة لاختيار خلفا له فما كان من الملكة إلا أن تدخلت شخصيا ومارست حقها الدستوري في اختيار رئيس الوزراء وعينت دوغلاس هوم رئيسا للوزراء.
بذلك نصل إلى نتيجة مفادها أن الملكية الدستورية ليست لها علاقة بحجم وطبيعة الصلاحيات التي يمارسها الملك في النظام الدستوري. بل هي تتعلق بضرورة أن تكون الصلاحيات التي يمارسها الملك في حدود الدستور سواء كان الملك يسود ولا يحكم أو يسود ويحكم من خلال وزرائه, فصلاحيات رئيس الدولة في الدستور قد تتسع وتضيق حسب التطورات والمتغيرات التاريخية في كل دولة, ففي فرنسا مثلا وقبل عام 1958 كانت هناك سلبية واضحة في صلاحيات رئيس الدولة في الدستور الفرنسي, إلا أنه وبعد قيام الجمهورية الفرنسية الخامسة برئاسة الجنرال ديغول فقد صدر دستور جديد في البلاد عمل على تقوية وزيادة صلاحيات الرئيس لتشمل حق حل البرلمان وحق إقالة الوزراء وتحديد موعد للانتخابات ودعوة مجلس النواب إلى الانعقاد.
إن أية مطالب إصلاحية في النظام الدستوري الأردني يجب أن تنصب على إصدار قانون انتخاب عصري كخطوة أولى أمام الأخذ بنظام الحكومة البرلمانية والتي تقوم على قيام الشعب بانتخاب رئيس الوزراء بدلا من تعيينه من قبل الملك, ولتحقيق هذه الغاية يجب على أي قانون انتخاب جديد أن يتبنى فكرة القائمة النسبية - سواء بشكل كامل أو من خلال المزج بين نظام الصوت الواحد والقائمة النسبية بنسبة يتم الاتفاق عليها - ليضمن وصول أحزاب سياسية إلى البرلمان تكرس مبدأ التعددية الحزبية والسياسية في الأردن وتمهد الطريق أمام تأليف حكومة برلمانية مشكّلة من الكتلة أو الائتلاف الأكبر في البرلمان.
إن مثل هذا التغيير في آلية تشكيل مجلس الوزراء لا يعني بالضرورة أننا انتقلنا إلى حالة الملكية الدستورية الموجودة أصلا في الأردن ولا يعني كذلك التقليل من صلاحيات الملك في الدستور الأردني, فتطبيق نظام انتخاب رئيس الوزراء في الأردن لا يلغي حق الملك في تكليف رئيس الوزراء الذي حصل حزبه على أكبر عدد من المقاعد بتشكيل الحكومة, وإنما يقتصر الأمر على وضع قيد على حق الملك في اختيار رئيس الوزراء وحصره برئيس الحزب الفائز في الانتخابات. وهو الإجراء المطبق حاليا في بريطانيا حيث لا بد أن يستأذن أي رئيس وزراء ينتخب في بريطانيا الملكة إليزابيث بتشكيل الحكومة حيث يصدر قرار عن الملكة بتعيين ذلك الشخص رئيسا للوزراء.
إن نظام انتخاب رئيس الوزراء يمكن تطبيقه في الأردن في ظل الوضع الحالي ودون الحاجة إلى تعديل الدستور, ويكفي الإِشارة إلى السابقة الدستورية التي حدثت عام 1956 عندما عين المغفور له الملك حسين بن طلال المرحوم سليمان النابلسي رئيسا لأول وزارة حزبية في الأردن على خلفية فوز حزبه الوطني الاشتراكي بأكبر عدد من المقاعد في الانتخابات التشريعية, لا بل أن تطبيق فكرة الحكومة البرلمانية في تلك التجربة في الأردن كان أفضل من بريطانيا على اعتبار أن رئيس الوزراء المختار سليمان النابلسي لم ينجح في الانتخابات البرلمانية في المقاعد المخصصة لعمان ومع ذلك تم اختياره رئيسا للوزراء بسبب أكثرية أعضاء حزبه في البرلمان.
في النهاية, يخطئ من يعتقد أن الانتقال إلى الملكية الدستورية يتم فقط من خلال تعديل آلية اختيار رئيس الوزراء والأخذ بنظام الحكومة المنتخبة, فالملكية في الأردن هي ملكية دستورية وإن كانت مطلقة بصورة اختيار رئيس الوزراء والوزراء وإقالتهم, فتغيير آلية تشكيل الحكومة قد يكون مطلبا أوليا ليس لإضفاء الصفة الدستورية على الملكية في الأردن والتي لا ينازع عليها, بل لتطبيق المادة (24) من الدستور والتي تعتبر الأمة مصدر السلطات. فالسلطات الثلاث في الأردن يجب أن يكون مصدرها الشعب وأن تستمد صلاحياتها من الشعب. أي أن الشعب الأردني ينتخب البرلمان عن طريق التنافس البرامجي ومن ثم يتم تشكيل الحكومة من خلال نتائج صناديق الاقتراع بمعنى أن الأغلبية التي تحوز على اختيار الشعب الأردني يكون لها الحق بتشكيل الحكومة. هذا الأمر عندما يحدث فإن الملك تثبت صفته الدستورية رأسا للدولة ومرجعية للسلطات وينأى بنفسه عن رئاسة السلطة التنفيذية.
2011/04/11-- العرب اليوم
* المحامي الدكتور ليث كمال نصراوين*
أستاذ القانون الدستوري في الجامعة الأردنية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق