الأحد، 26 فبراير 2012

الملكية الدستورية وأوهام الوطن البديل!


لا أظن أن الأوطان يمكن أن تختفي من على خارطة الوجود، وإذا ما حدث واختفت بالفعل، وكأنها كانت مجرد فقاعة صابون، فإنها لم تكن جديرة بالوجود من الأصل! لكن المؤسف والمعيب والمخيب حقاً أن نجد بين  ظهرانينا من يفكرون ويتصرفون بالفعل وكأنهم يعتقدون أن وطنهم قيد الأفول، فنراهم يتصايحون ويندبون ويلطمون، وكأن الأردن على شفى حفرة من الانتهاء والاختفاء، بعد أن ربطوا ربطاً حتمياً متعسفاً وأخرقاً بين تحقق الملكية الدستورية فيه وبين تلاشيه، متوهمين أن من شأن ذلك تحويله إلى وطن بديل لغير أبنائه! فهل سمعتم بربكم بأسخف من هذا الطرح وأبأس منه!؟
دعوني أتوقف قليلاً عند مفهوم الملكية الدستورية، الذي يشغل مكانة محورية متصدرة في أي نظام ملكي يريد أن يكون جديراً حقاً بشرف تسميته بالديمقراطي. الملكية الدستورية، ببساطة شديدة، وكما هي الحال في كل الملكيات الدستورية الديمقراطية في العالم، مثل بريطانيا وإسبانيا وهولندا والنرويج والسويد...الخ، تعني أن يكون الملك رمزاً متسامياً للوطن والأمة، يحتضن بعين الحياد والمباركة الروحية كل مواطنيه، بحيث يظل بوصفه الضامن المعنوي لوحدتهم راعياً مهيباً محبوباً معززاً مكرماً، لا يتأذى بغبار مناوشات السياسة وصراعاتها وتنافس أهلها على السلطة، فيَمثُل عراباً حامياً لدستور ديمقراطي يؤكد للشعب حرية اختيار ومراقبة ومحاسبة من يمثله ومن يحكمه، على قاعدة التبادل السلمي الودي للسلطة. وكنصيحة، إذا كان أحد القراء لا يؤمن بمثل ذلك المفهوم، فليتوقف مباشرةً عن المضي في القراءة، فقد لا يكون هذا المقال مخصصاً لأمثاله من الذين يفضلون العيش في مفاهيم القرون الوسطى وظلماتها!
إنني أستغرب حقاً موقف البعض، فبينما نجدهم يبحّون أصواتهم بالدعوة إلى استحضار الديمقراطية، نلقاهم يناهضون مفهوم الملكية الدستورية ويناصبونه العداء، وهو ما يعني إما عدم فهمهم معنى الديمقراطية، أو رفضهم لها في واقع الأمر؛ ما يجعلهم بالضرورة أسرى حالة عصيبة مستعصية من التشظي والانفصام، سياسياً وفكرياً وأخلاقياً. فالديمقراطية الحقيقية يستحيل أن تتحقق إلا بملكية دستورية حقيقية، وخلاف ذلك من القول بتغليب الملكية المطلقة، يعني التلفيق والتحايل والسعي العبثي للجمع بين متناقضات لا يمكن الجمع بينها! وربما كان من المفيد هنا أن أذكّر بمعنى مفهوم الديمقراطية، الذي يشير في أجلى دلالاته وأشهرها وأهمها إلى أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، فهل يمكن أن يتحقق ذلك والشعب يصحو على استقبال رئيس وزراء يهبط عليه من غامض علم الله، وينام على توديع آخر كان قد هبط أيضاً من غامض علم الله!
في الولايات المتحدة الأمريكية، قد لا يشكل الأمريكيون من أصول إفريقية، أي السود، إلا ما قد يقل عن سُبع السكان، ولكن الديمقراطية التي ينعم بها الناس هناك ـ بالرغم من كل ما يمكن أخذه عليها ـ جعلت رجلاً أسوداً من أب كيني مسلم يصل إلى أعلى المناصب التنفيذية في الدولة! فلماذا لا نتعلم من ذلك الدرس البليغ في الأردن، ولماذا لا نتذكر بأن الديمقراطية التي نتشدق جميعاً بالمطالبة بها تكفل لجميع المواطنين، على اختلاف مشاربهم وأروماتهم، وبعيداً عن دعوات المحاصصة الرذيلة، الحق في أن يشاركوا وينافسوا على إشغال المناصب العامة وتشكيل الأحزاب والحكومات، وكذلك ترؤسها، دون أن يصيروا هدفاً لنظرات الاتهام وسهام التحقيق والتشكيك والتعويق. وفي كل الأحوال، لا أظن أن أحداً يفكر ـ باستثناء أحمق أعمته العنصرية ـ بأن ممارسة مواطنيه، أياً تكن أصولهم ومنابتهم، لتلك الحقوق الديمقراطية الدستورية المشروعة، يمكن أن تعني أو تفضي إلى إلغاء وجود البلد بجرة قلم، ووضع لافتة جديدة باسم مغاير على أراضيه!
لماذا لا يريد البعض أن يفهم أن الدول الديمقراطية المتحضرة التي تستحق الحياة لا تهتم بالخلفيات الجغرافية لمواطنيها، ولا تُعنى بتاتاً بالنبش عن جذورهم، وأن ما يهمها وحسب هو التزامهم بالقوانين الديمقراطية التي تقوم على مبادئ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، حتى وإن كان آباؤهم وأجدادهم قد جاءوا من كوكب المريخ!؟ ولماذا لا يريد البعض أن يدرك أن ما هو مهم توافره في أي موظف عمومي، سواء أكان نائباً أو وزيراً أو عسكرياً أو قاضياً أو معلماً، أو أياً تكن وظيفته، بل في أي مواطن عموماً، هو التحلي بالنزاهة ونظافة اليد واحترام الناس والالتزام بالقانون، وليس مهماً أبداً أن يكون ابناً لهذه المنطقة أو العشيرة أو العائلة أو تلك!؟ ولماذا لا يريد البعض استيعاب حقائق بسيطة واضحة يجمع عليها العالم كله اليوم، ونراه يغمغم بلسان رجل الكهوف المعتمة الذي لم يصله نور الحضارة، وحكم على نفسه بأن يعيش فزعاً متوجساً يتوهم بأن الجميع يتآمرون عليه وعلى هويته لإبادتهما ومحوهما من صفحات الكون!؟
إن أصحاب ذلك المنطق الخائف المريض يسيئون للأردن قبل أن يسيئوا لأنفسهم لو يعلمون، فالأردن ليس بتلك الهشاشة التي يصورنه بها بصورة ضمنية، وبوعي أو بدون وعي، وهو لن يختفي حتماً من رقعة الوجود مهما ازدادت أعداد مواطنيه وتنوعت أصولهم وتعددت. ولن أتحدث طويلاً هنا عن وحدة الأصول وتشابك الجذور وتمازج المنابع للأردنيين، فبعض العنصريين المؤمنين بمزاعم نقائهم العرقي يرون في ذلك مجرد هراء، دون أن يفطنوا إلى أنهم ينحدرون هم أنفسهم من نفس أصول أولئك الذين يطالبون بسحب جنسياتهم وطردهم الآن!
ألا حقاًَ إن الجاهل العنصري عدو لنفسه، قبل أن يكون عدواً لأهله ووطنه!

 د. خالد سليمان
sulimankhy@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق